(الإنجليزية) This report is also available in: English
قالت “هيومن رايتس ووتش” اليوم إن استمرار الحكومة اللبنانية في سوء إدارتها لقطاع الكهرباء وتقاعسها عن تنفيذ إصلاحات ضرورية يُضعفان قدرة السكان المحدودة أصلا على الحصول على الكهرباء.
في 17 أغسطس/آب 2024، خرجت محطة الكهرباء الوحيدة العاملة في لبنان عن الخدمة بعد نفاد الوقود لدى “مؤسسة كهرباء لبنان” التي تديرها للدولة، ما أدى إلى انقطاع تام للتيار الكهربائي في جميع أنحاء البلاد. ترك انقطاع الكهرباء السكان والمؤسسات الرسمية الأساسية، مثل المطار ومحطات ضخ المياه وأنظمة الصرف الصحي والسجون، دون الكهرباء التي تؤمنها الدولة لأكثر من 24 ساعة، ما اضطرها إلى الاعتماد على مولدات الديزل الخاصة المُكلِفة للغاية وشديدة التلوث.
قال رمزي قيس، باحث لبنان في هيومن رايتس ووتش: ” سوء الإدارة المتعمد والمستمر من قِبل الحكومة أدخل البلاد في عتمة كاملة، وترك السكان يدفعون الثمن. التقاعس عن إجراء إصلاحات ضرورية، والتي من شأنها تمكين الحصول على تيار كهربائي مستمر ومتاح ونظيف، يعني أن لبنان سيتأرجح من انقطاع حاد في الكهرباء إلى آخر، لأجل غير مسمى”.
وثّق تقرير نشرته هيومن رايتس ووتش في 2023 أن أزمة الكهرباء في لبنان تحول دون تمتع سكانه بحقهم في الكهرباء، بالإضافة إلى حقوق أخرى مثل التعليم والصحة والمياه والصرف الصحي والبيئة الصحية.
في 18 أغسطس/آب، نشرت “مؤسسة مياه لبنان الجنوبي”، المرفق العام المسؤول عن تأمين المياه ومعالجة مياه الصرف الصحي في جنوب لبنان، بيانا تدعو فيه المواطنين إلى ترشيد استخدام المياه “بالحدود القصوى” بسبب انقطاع الكهرباء الحالي. قالت إن اعتماد المؤسسة على مولدات الديزل الخاصة “لا يكفي لتوفير الكمية الكافية من المياه لتغذية كافة المدن والبلدات التي تقع في نطاق صلاحيات المؤسسة”.
انقطاع الكهرباء في 17 أغسطس/آب نتج عن عدم سداد الحكومة الدفعات المتأخرة للحكومة العراقية مقابل تزويدها لبنان بالوقود الثقيل، الذي تستبدله الحكومة اللبنانية لاحقا بالوقود الأحفوري الملائم لمحطات الكهرباء في لبنان. قالت مؤسسة كهرباء لبنان إن آخر مجموعة إنتاجية توقفت عن العمل بعد نفاد مخزونها من الوقود الأحفوري، ما أدى “إلى توقف التغذية بالتيار الكهربائي كليا عن جميع الأراضي اللبنانية”.
نقلت وسائل إعلام أن الحكومة اللبنانية طلبت من العراق التنازل عن جزء من ديون لبنان غير المدفوعة عن شحنات وقود سابقة، ما أدى إلى تأخير العراق شحنات أخرى. في 18 أغسطس/آب، أعلنت الحكومة الجزائرية أنها ستزود لبنان بالوقود لتشغيل محطات الكهرباء، في أعقاب انقطاع الكهرباء، وأرسلت بضعة أطنان في 22 أغسطس/آب، دون نشر أي تفاصيل إضافية حول الاتفاق. في 19 أغسطس/آب، طلب رئيس الوزراء نجيب ميقاتي من “التفتيش المركزي” اللبناني، الجهة الحكومية المسؤولة عن الإشراف على الهيئات الرسمية، التحقيق في انقطاع الكهرباء.
في 21 أغسطس/آب، أرسلت هيومن رايتس ووتش كتابا إلى وزير الطاقة والمياه، يتضمن أسئلة حول انقطاع الكهرباء، والمرحلة التي بلغتها الإصلاحات الموعودة، وخطوات الحكومة لحل المشكلة، لكنها لم تتلق أي إجابات مكتوبة عن الأسئلة.
على مدى 30 عاما، لم تُحسن الحكومة اللبنانية إدارة مؤسسة الكهرباء التي تديرها الدولة بالشكل المناسب، ما أدى إلى انقطاعات واسعة في التيار الكهربائي. بين 2005 و2020، اشترت الحكومة اللبنانية ما قيمته مليارات الدولارات من الوقود المغشوش وغير المطابق للمواصفات من شركة تابعة لـ”سوناطراك”، شركة النفط الوطنية الجزائرية. عقود من السياسات غير المستدامة، والإهمال المتأصل، ونتيجة استيلاء النخبة على موارد الدولة، والفساد المزعوم، والمصالح الخاصة أدت إلى الانهيار التام في 2021 وسط الأزمة الاقتصادية المستمرة، تاركة البلاد دون كهرباء معظم الوقت.
تقاعست الدولة، بما في ذلك وزارة الطاقة والمياه المسؤولة عن التخطيط الاستراتيجي وتطوير سياسات الكهرباء، عن إجراء إصلاحات أساسية من شأنها أن تفرج عن أموال المانحين وتمكّن قدرة أكبر على الوصول إلى تيار كهربائي مستمر ومتاح ونظيف من مصادر متجددة، والتخلص الالتدريجي السريع من استخدام الوقود الأحفوري.
في ديسمبر/كانون الأول 2023، أقر البرلمان اللبناني “قانون إنتاج الطاقة المتجددة الموزعة“، الذي يسعى إلى تنظيم قطاع الطاقة المتجددة، وزيادة عدد ساعات التغذية اليومية بالكهرباء، عبر إدماج مصادر الطاقة المتجددة في شبكة كهرباء البلاد، والسماح لمصادر الطاقة المتجددة الخاصة ببيع الكهرباء. لكن القانون لم يدخل حيز التنفيذ بعد، لأن الحكومة قد تقاعست عن تفعيله وتعيين أعضاء “الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء”، وهي الهيئة التنظيمية المستقلة المخوّلة الإشراف على قطاع الكهرباء منذ 2002.
قالت ديانا القيسي، المديرة التنفيذية السابقة لـ”المبادرة اللبنانية للنفط والغاز“، لـ هيومن رايتس ووتش: “لم تُعيَّن الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء بسبب السياسة. الأحزاب السياسية تقف وراء منع التنازل عن سلطات الوزارة إلى الهيئة”. في غياب الهيئة، يمارس مجلس الوزراء، تحديدا وزير الطاقة والمياه، سلطة شبه مطلقة دون شفافية أو محاسبة.
في 2023، نقلت وسائل إعلام أن “البنك الدولي” وافق على تمويل اتفاقات حتى يتمكن لبنان من استيراد الكهرباء، وغاز الميتان من الأردن ومصر بشرط تنفيذ السلطات اللبنانية بعض الإصلاحات. من بين هذه الإصلاحات تفعيل الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء والتدقيق في حسابات مؤسسة كهرباء لبنان وتحسين الجباية. لكن الحكومة، بالإضافة إلى عدم تعيين أعضاء الهيئة، لم تنشر التدقيق المطلوب.
قالت هيومن رايتس ووتش إن على البنك الدولي أن يمتنع عن تمويل أي مشاريع طاقة جديدة تعتمد على الوقود الأحفوري، وأن يقدم بدل ذلك الدعم الفني والمالي لتوسيع البنية التحتية للطاقة المتجددة. الإجراءان الأساسيان اللذان يذكرهما البنك الدولي يعتمدان بشكل أساسي على الوقود الأحفوري كمصدر أساسي للكهرباء، بينما تبقى المصادر المتجددة محدودة، ويُنظر إليها كملاذ أخير.
وجدت هيومن رايتس ووتش في تقرير نشرته في 2023 أن لبنان يملك قدرات غير محدودة من الطاقة المتجددة، لا سيما الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، ويقول بعض الخبراء إن بإمكان لبنان الانتقال كليا إلى الطاقة المتجددة باستعمال طاقة الشمس والرياح والطاقة الكهرومائية بحلول 2035 وذلك باستخدام التقنيات الموجودة اليوم.
أفادت وسائل إعلام بأن مؤسسة الكهرباء لبنان أمّنت في 2024 نحو أربع ساعات من الكهرباء يوميا، بينما يستخدم الأشخاص الذين يستطيعون تحمّل الكلفة مولدات الديزل الخاصة شديدة التلويث، لتعويض النقص. نشأ قطاع غير رسمي وغير منظم إلى حد كبير لمولدات الديزل الخاصة تُقدّر قيمته بثلاثة مليارات دولار أمريكي.
الاعتماد على محطات كهرباء تعمل على زيت الوقود الثقيل ومولدات الديزل يؤدي إلى تلوث شديد في الهواء، وقد أثر بشكل كبير على البيئة وعلى صحة الناس، وربما يقتل الآلاف سنويا في لبنان، تبعا لتقديرات “غرينبيس” في 2020.
وعد وزير الطاقة بزيادة ساعات الكهرباء التي تزودها الدولة إلى ثماني ساعات يوميا، إلا أن خبراء طاقة قالوا لـ هيومن رايتس ووتش إن هذه الخطة غير واقعية.
قالت كريستينا أبي حيدر، محامية ومستشارة طاقة مستقلة: “جميع الخطط المطروحة اليوم غير واقعية. فهي لا تعالج الوضع القائم، بسبب الانهيار الاقتصادي. طالما نحن نحصل على الوقود للمولدات، لن يُجرى أي إصلاح في القطاع، لأن المنتفعين من لقطاع المولدات الخاصة بمعظمهم كارتيلات تابعة سياسيا، وعملهم يسير على ما يرام. مَن يغلق عملا يدر عليه المال؟”.
قال “مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية” (أوتشا) إن منذ بداية الأعمال العدائية عبر الحدود مع إسرائيل في 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023، ألحقت الضربات الإسرائيلية على جنوب لبنان أضرارا كبيرة بالبنية التحتية للكهرباء والمياه والاتصالات. في 4 أغسطس/آب، دمرت غارة إسرائيلية محطة لتحويل الكهرباء في الطيبة. كما ألحق القصف المدفعي الإسرائيلي أضرارا بمحطة توزيع الكهرباء في مرجعيون في 13 يوليو/تموز، ما فاقم انقطاع الكهرباء في المنطقة.
قالت هيومن رايتس ووتش إن على الحكومة اللبنانية، في ظل الأزمة المالية وأزمة الكهرباء الحالية، تكثيف مشاريع توليد الطاقة المتجددة محليا وعلى مستوى المرافق من أجل تقليل اعتمادها على الوقود الأحفوري باهظ الكلفة وشديد التلوث.
للجميع الحق في مستوى معيشي لائق على النحو المنصوص عليه في اتفاقيات مثل “العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية” الملزِمة في لبنان. وجدت هيومن رايتس ووتش أن هذا الحق يجب أن يتضمن صراحة، الحق بكهرباء ملائمة ومتاحة ونظيفة ومستدامة. يتعين على لبنان الاعتراف بالحق بالكهرباء، ووضع استراتيجية قوية لتطبيقه بأسرع وقت ممكن.
يتعيّن على الحكومة اللبنانية أن تتخذ خطوات فورية لضمان تمتُّع جميع السكان بتيار كهربائي مستمر ومتاح ونظيف ومستدام من مصادر طاقة متجددة. ينبغي لها تنفيذ قانون إنتاج الطاقة المتجددة الموزعة لعام 2023، وضمان المحاسبة والشفافية في قطاع الكهرباء، عبر تفعيل الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء، وإجراء تدقيق في شركة الكهرباء التي تديرها الدولة.
قال قيس: “وقت الأعذار والانتظار قد ولّى. ينبغي للدولة ألا تؤجل بعد الآن الإصلاحات الضرورية في قطاع الكهرباء من أجل الانتقال إلى نموذج كهرباء نظيفة ومستدامة من مصادر طاقة متجددة”.